يُعتبر لبنان سبّاقاً على مستوى العالم العربي في التأسيس لدولة وطنية انطلقت في العام 1943، ولكن هذه الدولة سقطت في العام 1975، وقيامها مرتبط بمصير المشروع الإيراني الذي لا يجوز التعامل معه على قاعدة انتظار سقوطه أو تغيير سلوكه.

من الخطأ تصوير الإشكالية وكأنها بين من يريد الدولة الوطنية ومن يرفضها، لأنّ هذه الدولة تشكل مطلباً لأي مواطن في العالم العربي وتحديداً في الدول التي يمنع المشروع الإيراني التمدّدي والتوسعي قيامها، بدءاً من اليمن والعراق، مروراً بسوريا ولبنان، وصولاً إلى فلسطين.
ومن الخطأ أيضاً الرهان على الوقت والتلطّي بثلاثة عناوين:
العنوان الأول ان تتبدّل طبيعة المشروع الإيراني، وهذا أكبر وهم يمكن تصوره، لأن هذا المشروع غير قابل للتغيير، فتوسّعِيته العنفية تشكل جزءا من علة وجوده، ويستحيل ان يتراجع عن خلق وإنشاء قوات غير نظامية وغير شرعية، ومجرّد وجود هذه القوات يعني استحالة الرهان على قيام دول وطنية.
وإذا كان خطأ 14 آذار مبررا، بشكل أو بآخر، بالرهان على لبننة «حزب الله» في العام 2005 باعتبار انّ خروج الجيش السوري من لبنان شكّل تحولا ومنعطفا لِطَي صفحة الحرب وبناء الدولة الوطنية وكان يفترض ان يشكل مناسبة لإعادة توحيد البلد حول مشروع الدولة، إلا ان اي رهان بعد هذا التاريخ يُصبح خطيئة، لأنّ الحزب ليس في وارد تسليم سلاحه ولا الانخراط في مشروع بناء الدولة الوطنية، ولا بل وجودها يشكل تهديدا لوجوده الذي يشكل حلقة من حلقات المشروع الإيراني.
العنوان الثاني ان يَسقُط النظام الإيراني من الداخل او يتم إسقاطه من الخارج، وهذا الرهان في غير محله، ليس فقط لأن سقوطه أم عدمه قد يحصل وقد لا يحصل، إنما لعدم جواز ربط مصير الدول والشعوب الممنوعة من العيش بشكل طبيعي بالاتكاء على تطورات لا تأثير لهم فيها، فيما هذه الشعوب مدعوة لتحسم مصيرها وترسم مستقبلها.
العنوان الثالث ان مصير المشروع الإيراني آيل للسقوط الحتمي كونه يسير عكس اتجاه التاريخ، وانّ وضعه لن يكون أفضل من وضع الاتحاد السوفياتي الذي لم يكن هناك من يتصوّر سقوطه. وبالتالي، عمر هذه المشاريع محدود زمنياً، ولكن لا يجوز الرهان أيضا على حركة التاريخ التي قد تقصر او تطول، فيما أيّ رهان يجب ان يكون على كيفية الحد من تأثير هذا المشروع على الدول والشعوب التي تعاني منه.
ومن هذا المنطلق لا يجوز التمسُّك بمفاهيم غير قابلة للترجمة من قبيل الدولة الوطنية، وذلك فقط لمجرّد كونها الحلّ الأفضل والأمثل، والنقاش ليس حول أهميتها وضرورتها، إنما حول انها سقطت وقيامتها مستحيلة سوى في حال سقوط المشروع الإيراني، ومن الخطأ الاستمرار في مواجهة الرابح فيها المشروع الإيراني لأنه يمنع قيام الدولة الوطنية من جهة، ولأنه يمارس دوره الطبيعي بالحروب وتعزيز ميليشياته من جهة ثانية من دون القدرة على محاصرة مشروعه وتطويقه.
ومنطلق اي نقاش يجب ان يكون حول كيفية توفير مقومات العيش المطلوبة للناس، وليس الصراع حول المدينة الفاضلة المتعذِّر تحقيقها، وكل شيء في هذه الحياة له فرصته وظروفه. وطالما انّ الدولة الوطنية سقطت وظروف قيامتها غير متوافرة بسبب المشروع الإيراني، وَجُب البحث عن البدائل التي توفِّر مقومات العيش بحرية وكرامة بانتظار توفُّر مقومات المشروع الأفضل.
وما تقدّم لا يعني إطلاقاً الاستسلام للمشروع الإيراني، إنما تغيير أسلوب المواجهة وأهدافها، خصوصاً انّ هذه المواجهة لم تبدأ منذ أشهر، إنما مستمرة منذ سنوات وعقود، وعامل الوقت يعمل لمصلحة هذا المشروع كَون ناسه تعيش في أوضاع غير مستقرة وتتأقلم معها تحت تأثير أيديولوجيتها، فيما من هم خارج هذا المشروع يَكونون مشاريع هجرة من أوطانهم.
والإشكالية المطروحة لا تعني حصرا الشعب اللبناني، إنما تعني شعوب أربع دول عربية إلى جانب الشعب الفلسطيني، وهذه الشعوب مطالبة بالتفكير والعمل المشترك لإيجاد الحلول المطلوبة، وقد يكون الوضع اللبناني هو الأفضل بفِعل التعددية القائمة، والتي ما زالت حتى اليوم تُرَسِّم طائفياً حدود المشروع الإيراني جغرافياً، فيما رهان أصحاب هذا المشروع هو على عامل الوقت لإلغاء التعددية وإسقاط الترسيم الجغرافي من خلال التمدُّد المنهجي المعتمد والمُتّبَع.
واي مقاربة يجب ان تنطلق من الوقائع وليس من التمنيات، والوقائع تقول الآتي:
أولاً، الدولة الوطنية سقطت في العام 1975، ومحاولة إنعاشها مع اتفاق الطائف فشلت، كما ان محاولة وضعها على المسار المطلوب بعد خروج الجيش السوري لم تنجح، ما يعني ان هذه الدولة في حالة سقوط مستمرة منذ نصف قرن، ولا مؤشرات إلى قيامة قريبة. وبالتالي، لماذا هذا الإصرار غير المفهوم على دولة وطنية سقطت مند 50 عاما وانطلاقتها أساسا كانت متعثرة وكادت ان تسقط مرارا قبل تاريخ اندلاع الحرب اللبنانية؟
ثانياً، الخلاف بين اللبنانيين يتجاوز رئاسة الجمهورية والحكومة وطريقة إدارة الدولة، إلى الخلاف حول الولاء للوطن والانتماء له ودور الدولة الخارجي والداخلي فيه، فيما نجاح الدولة الوطنية يجب ان يستند إلى أمرين أساسيين: الاتفاق على دور لبنان كدولة طبيعية وليس ساحة لثورات قومية ودينية تستخدم أرضه لمواجهة الإمبريالية وعناوين فارغة من هذا القبيل، والاتفاق على شراكة حقيقية بين الجماعات اللبنانية ضمانتها نظام سياسي لا أشخاص، أي شراكة ثابتة لا تتأثّر بديموغرافية وغيرها.
ثالثاً، أين الحكمة من الإصرار على جمع ما لا يُجمع ودمج ما لا يُدمج وانصهار ما لا يُصهر؟ فإمّا هناك رغبة وإرادة مشتركة في بناء دولة وطنية تشكل مصلحة للجميع على قاعدة نهائية وطن وأولوية إنسان، وإمّا وجب التفكير بحلول أخرى، لأن من يريد الدولة ليس بحاجة إلى دعوته إليها، وكيف بالحري إذا كانت التجربة الممتدة أقله منذ العام 1920 أظهرت انّ الانصهار غير ممكن، والقومية اللبنانية غير ممكنة، وان الدولة الوطنية غير ممكنة؟
رابعاً، هل يعقل انّ الخلاف ما زال هو نفسه منذ عقود بين من يريد دولة وسيادة وحياد، وبين من يريد دويلة في قلب الدولة وساحة مرتبطة بساحات؟ وهل يعقل انّ المنطق الخلافي ما زال هو نفسه منذ عقود، فلا تختلف أدبيات ستينات القرن الماضي عن اليوم؟
وبهدف مزيد من تصويب النقاش، إن الدوران في الحلقة نفسها بِرفع العناوين الكلاسيكية ذاتها يؤدي إلى خدمة المشروع الإيراني الذي اعتاد على سقف المواجهة الراهنة وحَوّلها لمصلحته، فيما من الضروري تغيير أسلوب هذه المواجهة من خلال الإعلان عن ثلاث خطوات أساسية:
الخطوة الأولى: الإعلان صراحة عن استحالة التعايش مع هذا المشروع، وان الدولة الوطنية مع المشروع الإيراني مستحيلة، ومن يتمسّك بهذه الدولة يساهم عن غير قصد بإبقاء السيطرة الإيرانية وتمدُّدها.
الخطوة الثانية: الإعلان عن المشروع البديل الذي يجب اعتماده، والبديل هو الدولة الوطنية من دون الفروع الإيرانية، ومرتكز الدولة الوطنية البدليلة اللامركزية الموسّعة الضامنة وحدها للتعددية اللبنانية، ومن يرفض اللامركزية يرفض التعددية ويريد ضمناً التخَلّص منها سعياً إلى أحادية.
الخطوة الثالثة: الإعلان عن خريطة الطريق التي يجب اعتمادها لتحقيق المشروع البديل مع الأخذ في الاعتبار انّ الممانعة ستمنع ولادة أي مشروع يحدّ من سيطرتها الكاملة والشاملة، ولكن من الضروري الانتقال من الدفاع عن مشروع ميت، هو الدولة الوطنية، إلى الهجوم بالمشروع الواضح الذي يضمن تعددية البلد، أي الدولة الوطنية البديلة على قاعدة لامركزية.
والنقاش بين اللبنانيين أولاً، ومع عواصم القرار ثانياً، يجب ان يتمحور حول انّ الدولة الوطنية مع المشروع الإيراني مستحيلة، وانّ التسويات الظرفية تخدم هذا المشروع، وانّ الرهان على تبدُّله أوهام وأحلام، وانّ من ينصح من الدول بالتعايش مع المشروع الإيراني فما عليه سوى استنساخه في بلده، وان لا حلّ في لبنان وسوريا والعراق واليمن إلا في الدولتين وعلى قاعدة لامركزية موسّعة حفاظاً على استمرارية الدولة الوطنية البديلة وديمومتها.
وببساطة تامة: التمسُّك بالدولة الوطنية يعني إفساح المجال أمام المشروع الإيراني ليواصل تَمدّده، ووقف هذا التمدّد شرطه الأساس الدولة الوطنية البديلة، اي الدولة التي تُعلن انفصالها عن المشروع الإيراني في لبنان وسوريا والعراق واليمن، ومن لديه فكرة أخرى غير انتظار التطورات في الغيب أولاً، وغير المواجهة الكلاسيكية التي تخدم الممانعة ثانياً، فليتفضّل.
وللبحث صلة بطبيعة المشروع الإيراني وخيار الفصل والموقف الدولي.

QOSHE - الحلّ بالدولة الوطنية البديلة - شارل جبور
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

الحلّ بالدولة الوطنية البديلة

6 16
04.03.2024

يُعتبر لبنان سبّاقاً على مستوى العالم العربي في التأسيس لدولة وطنية انطلقت في العام 1943، ولكن هذه الدولة سقطت في العام 1975، وقيامها مرتبط بمصير المشروع الإيراني الذي لا يجوز التعامل معه على قاعدة انتظار سقوطه أو تغيير سلوكه.

من الخطأ تصوير الإشكالية وكأنها بين من يريد الدولة الوطنية ومن يرفضها، لأنّ هذه الدولة تشكل مطلباً لأي مواطن في العالم العربي وتحديداً في الدول التي يمنع المشروع الإيراني التمدّدي والتوسعي قيامها، بدءاً من اليمن والعراق، مروراً بسوريا ولبنان، وصولاً إلى فلسطين.
ومن الخطأ أيضاً الرهان على الوقت والتلطّي بثلاثة عناوين:
العنوان الأول ان تتبدّل طبيعة المشروع الإيراني، وهذا أكبر وهم يمكن تصوره، لأن هذا المشروع غير قابل للتغيير، فتوسّعِيته العنفية تشكل جزءا من علة وجوده، ويستحيل ان يتراجع عن خلق وإنشاء قوات غير نظامية وغير شرعية، ومجرّد وجود هذه القوات يعني استحالة الرهان على قيام دول وطنية.
وإذا كان خطأ 14 آذار مبررا، بشكل أو بآخر، بالرهان على لبننة «حزب الله» في العام 2005 باعتبار انّ خروج الجيش السوري من لبنان شكّل تحولا ومنعطفا لِطَي صفحة الحرب وبناء الدولة الوطنية وكان يفترض ان يشكل مناسبة لإعادة توحيد البلد حول مشروع الدولة، إلا ان اي رهان بعد هذا التاريخ يُصبح خطيئة، لأنّ الحزب ليس في وارد تسليم سلاحه ولا الانخراط في مشروع بناء الدولة الوطنية، ولا بل وجودها يشكل تهديدا لوجوده الذي يشكل حلقة من حلقات المشروع الإيراني.
العنوان الثاني ان يَسقُط النظام الإيراني من الداخل او يتم إسقاطه من الخارج، وهذا الرهان في غير محله، ليس فقط لأن سقوطه أم عدمه قد يحصل وقد لا يحصل، إنما لعدم جواز ربط مصير الدول والشعوب الممنوعة من العيش بشكل طبيعي بالاتكاء على تطورات لا تأثير لهم فيها، فيما هذه الشعوب مدعوة لتحسم مصيرها وترسم مستقبلها.
العنوان الثالث ان مصير المشروع الإيراني آيل للسقوط الحتمي كونه يسير عكس اتجاه التاريخ، وانّ وضعه لن يكون أفضل من وضع الاتحاد السوفياتي الذي لم يكن هناك من يتصوّر سقوطه.........

© الجمهورية


Get it on Google Play