في أحد شوارع بيروت، تجرّ سيدة في متوسط العمر عربة خضار خشبية، تشدها بيديها بعزيمة وتوجهها إلى مكان أفضل لجلب الزبائن.

هذا المشهد الذي لا يبدو مألوفاً في لبنان، ترافق مع حملة تعاطف كبيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في زمن تعتبر فيه مهنة بيع الخضار على عربة حكراً على الرجال.

لكن المرأة المناضلة من أجل لقمة العيش هذه، كسرت القاعدة واخترقت العالم الذكوري، فانضمت إلى النساء اللبنانيات اللواتي زيّنّ، منذ زمن بعيد، ساحات المهن التي كانت محصورة بالرجال. ولم يعد مستغرباً اليوم، أن نرى ونحن في عزّ الأزمة، أمهات وفتيات يعملن كسائقات تاكسي وفي ميكانيك السيارات أو الصيانة. فالحد الأدنى للأجور لا يتعدى الـ5 ملايين ليرة، وهو مبلغ لا يكفي مصاريف شخص واحد، والشغل مش عيب، ولا حرج فيه، حتى لو لم يكن يتناسب مع تطلعات العاملة المعنيّة، كما أن جولة سريعة على ماضينا، يعيد الى الأذهان دور المرأة في صمود هذا البلد وشعبه وقدرتها على تخطي المصائب وإصرارها على النهوض بمجتمعها في كل مرة تشتد فيها الويلات.

وفي هذا السياق، توضح الخبيرة في الحقوق الجندرية ميرا عبدالله، أن أكثرية من يتأثر بالوضع الاقتصادي السيء عادة، هن النساء لأنه يقع على عاتقهن استحقاقات وتحديات اقتصادية ملحة، وهذا ما دفعنا الى رؤية امرأة تجرّ بسطة خضار، وهو أمر وإن كان سيئاً اقتصادياً إلا أنه إيجابي اجتماعياً.

وترى، في حديث لموقع “القوات اللبنانية” الإلكتروني، أن مكانة المرأة الاجتماعية والمراكز التي وصلت اليها، على الرغم من كل الصعوبات والتحديات، والذهنية المجتمعية التي تحد من طموحاتها ومن فرص نجاحها، تجعل من عمل امرأة تبيع الخضار على بسطة، أمراً أكثر من طبيعي، إذ من البديهي أن تدخل النساء في مجالات بيع الخضار والحدادة والنجارة وغيرها من المهن التي يرتبط اسمها بالرجال فقط، موضحة أن ما يجب أن يقلقنا فعلاً هو الوضع الاقتصادي الذي أوصلنا الى ما نحن عليه اليوم، وليس نساء يبعن الخضار.

وتلفت الى أن من انتقد أو “تعاطف” مع المرأة المعنية، هم بمعظمهم أشخاص يضعون ضغوطاً على النساء في بيئتهم، سائلة، “هل هؤلاء يعيشون في مجتمع لا تعمل فيه النساء مثلاً؟ حتماً لا.

وتذكّر عبدالله بتعرض المرأة للظلم الاجتماعي والاقتصادي في آن معاً، لأن مجموعة قررت أن تحدد المهن التي تقوم بها المرأة وتلك التي لا يمكنها ممارستها، معتبرة أن الظلم الذي يلحق بمجتمع ما يجبره على إعادة تدوير الظلم على نفسه وليس على من مارسه بحقه، وبدل أن ينتفض المجتمع ضد الظالم ومن تسبب بالوضع الاقتصادي السيء، تراه ينتفض على المظلوم أو على المرأة التي قررت بيع الخضار. وتضيف، “إعادة تدوير الظلم والقمع، من الأدوات التي تستعملها الأنظمة السياسية كي ينقلب المجتمع على نفسه وينساها”.

وتؤكد عبدالله أن “فكرة أن تكون المرأة معززة في منزلها”، هي فكرة ذكورية لأن على المرأة أن تختار بنفسها ما تريد، إضافة الى وجود نوع آخر من القمع المرتبط بعمر المرأة، ففي بلدان تمنع القوانين التمييز وفق العمر، لا يزال من يبلغ 50 عاماً بكامل انتاجيته، وتتابع، “أتحدث هنا عن درجات القمع المتعددة حتى ولو كان التعاطف كبيراً، لأن القمع لا يكون دائماً مقصوداً إنما في معظم الأحيان لا شعورياً وفي اللاوعي الاجتماعي”.

وتتوقع عبدالله أن يشهد المجتمع اللبناني اختراقاً “نسائياً – مهنياً” بسبب الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية، لافتة الى أن الأسباب التي تقف وراء هذا التطور هي أسباب خاطئة لكن من الضروري أن نشهد على تغيير في بعض العادات الاجتماعية ورؤية النساء “وين ما كان”، متمنية لو تكون أسباب هذه النقلة انفتاح المجتمع وإعطاء المرأة المكانة التي تستحقها، ولكن إذا كانت الأسباب الاقتصادية هي التي جعلت هذه المساواة موجودة، نكون قد شهدنا على شيء إيجابي وسط كل هذه السلبيات.

وتسأل، كيف للمجتمع اللبناني الذي يفتخر بنسائه المقاومات وصمودهن أيام الحروب أن يرفض تحدي الفقر والعوز ورؤية امرأة تجر عربة خضار لتأمين مقومات الصمود؟”.​

QOSHE - خاص ـ اللبنانيات يحطّمن “ذكورية” المهن… حتى بعزّ الفقر - نجاة الجميّل
menu_open
Columnists . News Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

خاص ـ اللبنانيات يحطّمن “ذكورية” المهن… حتى بعزّ الفقر

4 4 3
11.01.2023

في أحد شوارع بيروت، تجرّ سيدة في متوسط العمر عربة خضار خشبية، تشدها بيديها بعزيمة وتوجهها إلى مكان أفضل لجلب الزبائن.

هذا المشهد الذي لا يبدو مألوفاً في لبنان، ترافق مع حملة تعاطف كبيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في زمن تعتبر فيه مهنة بيع الخضار على عربة حكراً على الرجال.

لكن المرأة المناضلة من أجل لقمة العيش هذه، كسرت القاعدة واخترقت العالم الذكوري، فانضمت إلى النساء اللبنانيات اللواتي زيّنّ، منذ زمن بعيد، ساحات المهن التي كانت محصورة بالرجال. ولم يعد مستغرباً اليوم، أن نرى ونحن في عزّ الأزمة، أمهات وفتيات يعملن كسائقات تاكسي وفي ميكانيك السيارات أو الصيانة. فالحد الأدنى للأجور لا يتعدى الـ5 ملايين ليرة، وهو مبلغ لا يكفي مصاريف شخص واحد، والشغل مش عيب، ولا حرج فيه، حتى لو لم يكن يتناسب مع تطلعات العاملة المعنيّة، كما أن جولة سريعة على ماضينا، يعيد الى الأذهان دور المرأة في صمود هذا البلد وشعبه وقدرتها على تخطي المصائب........

© Lebanese Forces


Get it on Google Play