بين فلوبير وبودلير فلسفةٌ ظاهرية، ولكنّها تخلق النزاعات الالتحامية إن دقّقنا في تفاصيلها الثاقبة، فهي تستوحي ميكروسوسيولوجيا معلّبة بإخفاقٍ فاضح، منذ مرحلة طفولتهما الغامضة إلى أن شبّا على افراز طاقاتهما في الابداع الكتابي والتنوّع الفكري والانساني ومعاصرة الغفكار الحديثة.

هذا التبلور الواضح يتّخذ تقاسيمه على إثر تأثّر بودلير في طفولته بوالدته كارولين دوفيس التي ربّته وحيدة وحظيت بسمعةٍ اجتماعية رافية، نظراً لوضعها الاجتماعي المترف وولعها بالاهتمام، وحياتها الأدبية الزاخرة بالوجوه الأدبية البارزة، ومع اقترانها بزوجٍ آخر، وهو الجنرال شارل اوبيك، وما لبثت أن انصرفت عن ابنها وتشاغلت بعمل زوجها السياسي وتقدّمه الحثيث فيه، فتشرذمت مشاعره وتفاقمت آلامه وتبعثرت أحزانه في دوّامةٍ من اللاتعقّل والتنجيم العبثي في دنيا المرأة، فعشق امرأة خلاسيّة حدّ الجنون لتعوّضه عن حنان الأم، وهي جان ديفال التي كتب فيها أجمل قصائده.

وقد تجرّدت مشاعر بودلير من الفلسفة الأخلاقية التي تحفّز ترتيب أحقيّة المنطق وأهميّة العقل و أولولية النظام، وتضع نصب الأشياء في مواضعها، وآثر التمرّد والتنمّر الذاتي على مجتمعه فعاش حياةً متنقّلة واهمة، يقتني فيها التجاوزات الانسانيّة الملحوظة التي تحرّض عليه غضبَ الآخرين، وتعزّز بناءَ هرم الازدراء والتهكّم واللامبالاة في شخصه، حتّى تناوب على سخطه في كلماتٍ جانحةٍ للتحوير الخلقي الذي جلب له متاعب جمّة في شعؤه، وجمح في آفاقٍ مغبّشة من اللايقين والشك.

هذا الانقلاب السيكولوجي في روحه التي اضطرمت بالحقد من اهمال الأم وتظاهره على سينتولوجيا المبادئ والدين ليغتنمَ فرصَ الانفلات والتحرّر اللاعقلاني، نمّ عن عقدته التي نبعت من الفلسفة الوضعية التي عايش فيها تجارب مدمّرة، فاختار أن ينتفض بدلاً من أن يسكت، كما وصف هذا الفيلسوف فرانسيس بيكون بقوله:»الصمت فضيلة الحمقى».

وقد تنقّل فكر بودلير في عدّة معابر وعلى مراحل متتالية، من مرحلة التثقيف الديني الى الميتافيزيقي ثمّ العلمي ثمّ انصبّ وحيه على مخالفة مجتمعه ومعارضة مفاهيمه، وكأنّه يلغي أفكار أوغست كونت عن المجتمع والوطن، ويسرح وحيداً خارج الخليّة معتنقاً ومنتقماً من حرمانه العاطفي من أمّه التي حجرت على أمواله بسبب تهتّمه ونزقه المتكرّر.

أمّا فلوبير، فقد عاش تجربة فريدة في نشأته القروية المترفة، على عكس بودلير الذي تنعّم بحضارة المدن ورقيّها الحضاري، ولكنّ جوّ الريف انعكس بطبيعته واقتباسات الأجواء الساذجة على نفسه وأفعم كتاباته ببذخٍ أدبيٍّ باهر، فكانت رواية «مدام بوفاري» لغة التخاطب بينه وبين الجماعة والأفراد لغنّها اتّخذت أبعاداً انطولوجية هائلة، واحتوت مفاتيح الفنّ الخطابي الحديث بين الطبقة البرجوازية وطبقة البروليتاريا، وهشّمت القيودَ المرتبكة بين الضعيف والقوي، وقد استمدّ فلوبير هذا الايحاء العظيم من طفولته البائسة التي كان متعلّقاً فيها بأبيه الذي شغل آنذاك منصب كبير الجرّاحين، كما عانى من غيرة شديدة من أخيه الإكبر آخيل ااذي كان موضع اهتمام العائلة.

وفد تأثّر فلوبير بالفلسفة الواقعية وتنبّأ بها كحلٍّ جذريٍّ للضياع والصراع النفسي للأفراد، وتوغّل في دراسة الحضارات واحتراف الاستشراق الأدبي وفنّ الرحلات ، ولم ينس جرح طفولته واهمال أبيه له، وتجرّع سموم اليأس مراراً من غير اكتراث.

بين بودلير وفلوبير رابطة التبعية التي تجزم بأنّ الحرمانَ العاطفي قد يولًد آثاراً من الأوجاع المبرحة التي لم تفارق كلّيهما حتّى الرحيل، فقد اكتويا مرتطمين باليأس القاتل، وقد حاول بودلير الانتحار بطعن نفسه ولم تفلح محاولته، أما فلوبير فقد عانى من كآبةٍ نوعية تجسّدت في النهايات القاتلة لأبطال رواياته، فابتدعا فلسفةً جديدة هي فلسفة الحرمان المتأصّل، الذي أتلف أحاسيسهما وأربك أفكارهما لكنّه لم يثنهما عن الكتابة الالهاميّة الخارقة، فاكتفيا بالأدب وفلسفته، ولم يغوصا في تحليل الجوانب الديموغرافية لمساوئ البيئة وتصرّفات الوالدين التي تجلب الوبال والشجن.

QOSHE - بودلير وفلوبير جمعهما الحرمان وفرّقتهما الأرصفة - نسرين بلوط
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

بودلير وفلوبير جمعهما الحرمان وفرّقتهما الأرصفة

8 0
27.04.2024

بين فلوبير وبودلير فلسفةٌ ظاهرية، ولكنّها تخلق النزاعات الالتحامية إن دقّقنا في تفاصيلها الثاقبة، فهي تستوحي ميكروسوسيولوجيا معلّبة بإخفاقٍ فاضح، منذ مرحلة طفولتهما الغامضة إلى أن شبّا على افراز طاقاتهما في الابداع الكتابي والتنوّع الفكري والانساني ومعاصرة الغفكار الحديثة.

هذا التبلور الواضح يتّخذ تقاسيمه على إثر تأثّر بودلير في طفولته بوالدته كارولين دوفيس التي ربّته وحيدة وحظيت بسمعةٍ اجتماعية رافية، نظراً لوضعها الاجتماعي المترف وولعها بالاهتمام، وحياتها الأدبية الزاخرة بالوجوه الأدبية البارزة، ومع اقترانها بزوجٍ آخر، وهو الجنرال شارل اوبيك، وما لبثت أن انصرفت عن ابنها وتشاغلت بعمل زوجها السياسي وتقدّمه الحثيث فيه، فتشرذمت مشاعره وتفاقمت آلامه وتبعثرت أحزانه في دوّامةٍ من اللاتعقّل والتنجيم العبثي في دنيا المرأة، فعشق امرأة خلاسيّة حدّ الجنون لتعوّضه عن حنان الأم، وهي جان ديفال التي كتب فيها أجمل قصائده.

وقد........

© الجمهورية


Get it on Google Play