ينكبّ المحلّلون في الأيام الأخيرة على قراءة ما يجري على خط واشنطن- تل أبيب: هل تؤشر المواقف الأميركية الأخيرة إلى خلاف حقيقي مع حكومة بنيامين نتنياهو على خلفية الحرب في غزة، أم تبقى التباينات عابرة بين الطرفين؟

فوجئ كثيرون بأنّ واشنطن فعلتها في مجلس الأمن، وسمحت بصدور قرار لوقف النار في غزة، بعدما استخدمت «الفيتو» تكراراً لإحباط المحاولات السابقة. واتخذت هذه الخطوة أبعاداً سياسية دقيقة، لأنّها جاءت في خضم تغييرات في العديد من المواقف في الداخل الأميركي، بما في ذلك الحزب الجمهوري.


فالرئيس جو بايدن لم يعد وحيداً في توجيه الانتقادات إلى نتنياهو والدعوة إلى الحسم سريعاً في غزة وتجنّب الكارثة الإنسانية المحتمة، بل جاءه الدعم من الركن البارز في المعسكر الداعم لإسرائيل، زعيم الغالبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، الذي اعتبر أنّ نتنياهو يغامر بمستقبل إسرائيل من أجل مصالحه، وأنّ من الأجدى إجراء انتخابات مبكرة تفرز قيادة جديدة هناك.


الجمهوريون ردّوا بقسوة على مواقف شومر. واعتبرها زعيم الأقلية الجمهورية ميتش ماكونيل سخيفة ومنافقة، وقال إنّ خلفياتها سياسية داخلية، وإنّ إسرائيل تستحق حليفاً يتعاطى معها كحليف. لكن المفاجئ هو أنّ الجمهوريين أيضاً سرعان ما بدّلوا مواقفهم، وفي غضون أيام معدودة. فقد أطلق دونالد ترامب، في اليومين الأخيرين، أحاديث لوسائل إعلام أميركية وإسرائيلية دعا فيها نتنياهو إلى إنهاء الحرب سريعاً في غزة، لأنّها ستقود إلى سقوط أعداد هائلة من المدنيين، ما يؤدي إلى خسارة إسرائيل تعاطف المجتمع الدولي.
وربما، في ظل هذا التبدّل في موقف الجمهوريين أيضاً، أصبح مفهوماً لماذا تجرأت إدارة بايدن على السير بقرار وقف النار في مجلس الأمن، فيما كانت تنتظر وصول نتنياهو إلى واشنطن، فجاء الردّ الإسرائيلي بإلغاء الزيارة.


في الأوساط الديبلوماسية قراءات مختلفة للتحول المستجد في المواقف الأميركية. فهناك من يعتبر أنّ واشنطن التي سارعت منذ اللحظة الأولى لعملية 7 تشرين الأول 2023 إلى إعلان دعمها المطلق لأمن إسرائيل وتأييدها للقضاء على «حماس»، شعرت بأنّ الحرب هناك قد طالت ودخلت تحولات غير محسوبة، فباتت عبئاً ثقيلاً يهدّد مصالحها الاستراتيجية. ولذلك، هي اليوم تطالب بوقفها في أسرع ما يمكن وفتح الباب لتحقيق الأهداف بالسياسة.


وثمة من يعتقد في واشنطن أنّ «حماس»، بعد وصولها اليوم إلى وضع حرج، باتت أكثر استعداداً للمساومات والتسوية، بمشاركة القوى الفلسطينية الأخرى وبتغطية عربية ودولية. وفي رأي الأميركيين أنّ هذا الأمر يمكن أن يحقّق الهدف، من دون السقوط في دوامة عنف لا نهاية لها.
البعض يقول إنّ حرب غزة أضعفت الولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات في مناطق أخرى من العالم، ولاسيما في أوكرانيا، حيث حصلت موسكو على فرصة لترجيح الكفة، ما قد يهدّد الأمن الأطلسي. كما أنّها أحرجت القوى العربية والإسلامية الحليفة للولايات في الشرق الأوسط، والموافقة على مبدأ التطبيع مع إسرائيل. وإذا تعرّضت رفح للكارثة الإنسانية المتوقعة، فإنّ العرب والمسلمين على اختلاف محاورهم سيحمّلون إسرائيل المسؤولية، ولن يوفّروا الولايات المتحدة والغرب، وستبقى مجازر رفح محفورة في ذاكرة العرب والمسلمين لأجيال. وهذا ما سينعكس سلباً على رصيد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وحلفائها لدى دول المنطقة، ويسهل دخول روسيا والصين إليها.


لكن هذا التباين بين الولايات المتحدة وإسرائيل حول الحرب لن يصل إلى حدّ اندلاع مواجهة سياسية بين البيت الأبيض ونتنياهو، لأنّ ما يقوم به رئيس الوزراء الإسرائيلي في غزة يحظى بإجماع القوى السياسية في إسرائيل. وعلى رغم أصوات الاعتراض عليه في داخل حكومته، فإنّ هذه الحكومة ما زالت تمثل ائتلافاً سياسياً. فالقوى السياسية كافة تدعم القضاء على «حماس» وإخضاع قطاع غزة ليصبح «ضفة غربية أخرى».


وعلى الأرجح، لن يؤدي الموقف الأميركي إلى تراجع نتنياهو عن مخططه، لكنه سيضطره إلى البحث عن الطرق المناسبة وانتظار الظروف الملائمة لتحقيق أهدافه. وهناك اقتناع بأنّ أياً من الحزبين الديموقراطي والجمهوري ليس مستعداً لمعاقبة إسرائيل، بمعنى فرض الحصار عليها وإجبارها على الدخول في خيارات ترفضها. والإسرائيليون اعتادوا التعاطي مع التذبذب في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط.


في كتاب صدر أخيراً تحت عنوان «الوهم الكبير: صعود الطموح الأميركي وسقوطه في الشرق الأوسط»، يُقدّم ستيفن سايمون، وهو أحد العاملين ضمن دائرة القرار الأميركي تجاه الشرق الأوسط، تقويماً للثغرات التي مرّت فيها كل إدارة رئاسية، منذ 4 عقود، من جيمي كارتر إلى بايدن. واستنتج أنّ القرار الأميركي تجاه الشرق الأوسط غالباً ما تتحكّم به أمنيات أو حسابات حزبية.

QOSHE - واشنطن تنأى بنفسها قبل كارثة رفح - طوني عيسى
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

واشنطن تنأى بنفسها قبل كارثة رفح

5 1
27.03.2024

ينكبّ المحلّلون في الأيام الأخيرة على قراءة ما يجري على خط واشنطن- تل أبيب: هل تؤشر المواقف الأميركية الأخيرة إلى خلاف حقيقي مع حكومة بنيامين نتنياهو على خلفية الحرب في غزة، أم تبقى التباينات عابرة بين الطرفين؟

فوجئ كثيرون بأنّ واشنطن فعلتها في مجلس الأمن، وسمحت بصدور قرار لوقف النار في غزة، بعدما استخدمت «الفيتو» تكراراً لإحباط المحاولات السابقة. واتخذت هذه الخطوة أبعاداً سياسية دقيقة، لأنّها جاءت في خضم تغييرات في العديد من المواقف في الداخل الأميركي، بما في ذلك الحزب الجمهوري.


فالرئيس جو بايدن لم يعد وحيداً في توجيه الانتقادات إلى نتنياهو والدعوة إلى الحسم سريعاً في غزة وتجنّب الكارثة الإنسانية المحتمة، بل جاءه الدعم من الركن البارز في المعسكر الداعم لإسرائيل، زعيم الغالبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، الذي اعتبر أنّ نتنياهو يغامر بمستقبل إسرائيل من أجل مصالحه، وأنّ من الأجدى إجراء انتخابات مبكرة تفرز قيادة جديدة هناك.


الجمهوريون ردّوا بقسوة على مواقف شومر. واعتبرها زعيم الأقلية الجمهورية ميتش ماكونيل سخيفة ومنافقة، وقال إنّ خلفياتها سياسية........

© الجمهورية


Get it on Google Play