تكاد تضيقُ بنت جبيل التي تتلقّى هذه الأيام قنابل عدوّ التّين والزيتون بخَبرٍ صغير عن شخص من أبنائها من ذوي الاحتياجات الخاصة ضاعَ في الضاحية منذ يومين. موسى بزّي لا تجِد في بنت جبيل ولا في القرى المجاورة من لا يعرفُه. في التعازي هو أول الواصلين وآخر المغادرين، في الأفراح هو المبشّر لا النذير، وفي أيام النصر كان يحمل غصن زيتون ويتمشى في الشوارع.

لا أذكُر أنا البعلبكي المتأهّل من بنت جبيل أني رأيتُه يوماً سعيداً، ولا رأيته حزينا، ولا رأيته ضاحكاً ولا رأيته باكياً. بلى رأيته يبكي مرة ولم أعرف لماذا، لكن قلبي كاد ان ينخلع لهُ. وقفتُ بجانبه فلم يعطني انتباهاً ولا نظَر نحوي. كان ربما برفقة أحد من أموات بنت جبيل الذين يزورهم كل يوم ولا يخشاهم. يتمشيان ويحكيان حكايا. لم ينخلع قلبي كما يومَ رأيت موسى بزي يبكي لأمرٍ مجهول، وما زلت حتى اليوم أريد أن أعرف مَن أبكاه ولماذا أبكاه وهو الحارس الأمين لبنت جبيل، قبل حرب تموز، وبعدها، وبقي يقيس شوارعها بجاكيتته «الرسمية» وهندامه. كان مُهندَماً دائماً ولا أدري من يأخذ باله منه في اليوميات، ويبقى كما خرج من البيت، يدخل البيت ليعيد الكَرّة كل يوم، مع كل الناس الذين يعرفهم ولا يعرفهم ويعرفونه ولا يعرفونه. موسى بزي الذي اعتمر قلّوسة واعتمر برنيطة واعتمر طاقية تَقيه حرارة الشمس في الصيف، ومطرَ الشتاء القاسي. هذه المرة قالوا له تعال إلى بيروت يا موسى، وظنّي أنه رفضَ، ومانعَ لكن قراراً في العائلة حمله إلى بيروت.

لا يعرف موسى بزي طرقات الضاحية، ولم يتعوّد على سياراتها القاتوليّة ولا على ڤاناتها التي ما أنزلَ الله بها من سلطان، ولا على درّاجاتها النارية التي تُكَفّر الأئمة قبل العامّة، وفي بيروت ضاع موسى. موسى بزي الذي هو مستعدٌّ أن يَعُدّ أحجار بيوت مدينته وأهلها وعدد الشجر حولها، وصل إلى بيروت، رأوه في آخِر التعازي أمام جامع الكاظم ثم اختفى. لم يعُد إلى البيت الذي كان فيه قبل يوم وليلة، ولا عاد بعد ثلاثة أيام إلى المسجد، ولا عُرف عنه شيء. اختفى موسى بزي الذي كنتَ تسأله عن بيتٍ في بنتِ جبيل فيجيبك عمّن راح من أهله إلى ديترويت وعمّن بقي في بنت جبيل وعمّن سيولد جديداً منها. هو نفسُه اليوم لا أدري إذا كان سيجدُ من يسأله أي سؤال، أو يستوضحه عن أهله ومدينته حيث هو الآن. يخشى أهل بنت جبيل أن تكون أسطورة موسى بزي قد انتهت بالضياع، بالغربة، بالأسئلة أين ذهب وإلى أين وكيف؟ من دون أجوبة. كان يزور أهل مدينته بالمفرّق، وها هم يتكأكأونَ عليه بالجملة. ولا يريدون أن يصدّقوا أن رجلاً «مَلْوَ ثيابه» وعليه علامات معيّنة لا تَخفى على ناظر، يختفي بين لحظة وأُخرى.

لم يختفِ موسى بزي... عن عشرات العيون. اختفى... من مئات العيون التي كانت لا تُقَدِّر أن تُرسَمَ له نهاية كهذه. لم تُرسَم النهاية بعد فما عند ربك ليس عند العبيد، لكن المدينة خائفة عليه. يقولون «بَرَكة بنت جبيل» ضاعت. مِن أين سيأتون ببَرَكةٍ توازي هذا الذي صنعه موسى ولم يدرك أنه صنع شيئاً ؟

أذكُر، كانت أم وضّاح إذا شاهدَتْه يطلّ من أول طلعة «المحيريق» تتطلّع نحوه وتصمت. تصمت طويلاً. وتنظر إلى السماء من دون أن تحكي. كنتُ أرى في وجه أم وضاح شفقة على مودة على «تقدير» موسى بزي، هذا الذي غاب اليوم. «أوعى حَدا يقلّو كلمة عاطْلِة هه»، كانت أم وضاح تُنبه الصبايا والشباب، ربما لأن البَرَكة لا تأتي كل يوم !

أغلب الاحتمال أنه سيختفي أياماً قليلة ويعاود الظهور في بنت جبيل، وحده، من دون دليل إلى هناك.

QOSHE - بَرَكَة موسى بنت جبيل ! - عبد الغني طليس
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

بَرَكَة موسى بنت جبيل !

6 0
09.02.2024

تكاد تضيقُ بنت جبيل التي تتلقّى هذه الأيام قنابل عدوّ التّين والزيتون بخَبرٍ صغير عن شخص من أبنائها من ذوي الاحتياجات الخاصة ضاعَ في الضاحية منذ يومين. موسى بزّي لا تجِد في بنت جبيل ولا في القرى المجاورة من لا يعرفُه. في التعازي هو أول الواصلين وآخر المغادرين، في الأفراح هو المبشّر لا النذير، وفي أيام النصر كان يحمل غصن زيتون ويتمشى في الشوارع.

لا أذكُر أنا البعلبكي المتأهّل من بنت جبيل أني رأيتُه يوماً سعيداً، ولا رأيته حزينا، ولا رأيته ضاحكاً ولا رأيته باكياً. بلى رأيته يبكي مرة ولم أعرف لماذا، لكن قلبي كاد ان ينخلع لهُ. وقفتُ بجانبه فلم يعطني انتباهاً ولا نظَر نحوي. كان ربما برفقة أحد من أموات بنت جبيل الذين يزورهم كل يوم ولا يخشاهم. يتمشيان ويحكيان حكايا. لم ينخلع قلبي كما يومَ رأيت موسى بزي يبكي لأمرٍ مجهول،........

© الجمهورية


Get it on Google Play